معظم النار من مستصغر الشرر
مجدي محمد مصطفي – باحث في قضايا الأمن ✍️
على مدار العقود الماضية، لم يهدأ لهيب الحرب في السودان. وبينما يتذكر العالم حرب الجنوب باعتبارها أطول الحروب في القارة الإفريقية، وأكثرها وحشيةً وقذارة، فإن القليلين يدركون أنها لم تكن مجرد حرب أهلية، بل كانت مشروعاً استخباراتياً معقداً، بُني على سياسات التشظي، والتخريب الممنهج، والتحكم بالخرائط السكانية والعسكرية في محيط إقليمي هش.
العقل المدبر: كيف سُيّست الجغرافيا وأُدلجت الحرب؟
في شمال السودان، كان “النظام الإسلاموي” بقيادة الجبهة القومية الإسلامية، يدير الدولة بعقلية استخباراتية تعمدت تجهيل المجتمعات، وتأجيج النعرات العرقية والدينية لتبرير الحرب ضد الجنوب. لكن الجنوب لم يكن ميدان حرب فقط، بل مختبراً لكل أنواع الأسلحة و الانتهاكات الأمنية غير المسبوقة.
المحرقة الصامتة: عندما تحكمت الاستخبارات بالعنف
في جنوب السودان، أُطلق الكيزان يد جهاز الاستخبارات العسكرية بلا قيود. ومنذ لحظة استيلائهم على السلطة، تبنت الدولة سياسة الأرض المحروقة: قتل جماعي، اغتصاب منظم، تعذيب حتى الموت، وإحراق للقرى، في محاولات ممنهجة لكسر إرادة الجنوبيين.
كل ذلك لم يكن عرضياً، بل نتاج غرف عمليات أمنية، أدارت الحرب كما تُدار مسارح الجريمة.
اختراق الداخل: الاستثمار في الانقسامات الإثنية
إمتد النشاط الاستخباراتي السوداني إلى داخل الحركة الشعبية نفسها. فبُذلت جهود استخباراتية ضخمة لتغذية التوترات بين قياداتها، مما أدى إلى الانشقاق الشهير بقيادة الدكتور رياك مشار، الذي أسس لاحقاً حركة “استقلال جنوب السودان” بدعم كامل من الخرطوم.
توفير الملاذ الآمن والدعم السياسي واللوجستي لمجموعة تعلن بوضوح سعيها لانفصال الجنوب عن الشمال، لم يكن مجرد تكتيك عسكري، بل رسالة استخباراتية واضحة: الخرطوم لا تقاتل من أجل الوحدة، بل لإدارة التفكيك.
مجموعات تحت السيطرة: الأدوات الميدانية للاستخبارات
دعمت الخرطوم عبر استخباراتها عدة ميليشيات جنوبية أخرى على غرار فاولينو ماتيب، كلمنت واني، إسماعيل كوني، وغيرهم. هذه المجموعات لم تكن سوى أوراق ضغط بيد الاستخبارات، تستخدمها متى أرادت لضرب نفوذ الحركة الشعبية بقيادة د جون قرنق، وتفكيك حلم “السودان الجديد”.
تمدد العمليات الاستخباراتية إلى دول الجوار
لم تتوقف العمليات عند حدود الجنوب. فقد وسّعت استخبارات الخرطوم نشاطها إلى تشاد، و ليبيا وإفريقيا الوسطى، كينيا، إثيوبيا، والكونغو، بل وحتى داخل العمق الأوغندي.
في يوغندا، المتهمة حينها بدعم الجيش الشعبي، دعمت الاستخبارات العسكرية السودانية “جيش الرب” بقيادة جوزيف كوني. أُنشئت له معسكرات في جوبا وكاجو كاجي وغرب الاستوائية، وتم تزويده بالسلاح والمال، ليشن هجمات في شمال يوغندا كجزء من حرب بالوكالة. أما في كينيا، جرى دعم مجموعات من “الشباب الصومالي”. كما دعم جماعات في الكونغو وأفريقيا الوسطى, حيث جُندت ميليشيات إجرامية لأداء مهام قذرة تخدم أهداف الخرطوم.
تتبع الروابط التاريخية وعلاقات الوكالة بين الإستخبارات السودانية و جيش الرب
نشأ جيش الرب للمقاومة (LRA)، بقيادة جوزيف كوني، من تمرد ضد الحكومة الأوغندية في أواخر الثمانينيات، مدفوعاً بمطالب استقالة الرئيس موسيفيني وتأسيس دولة مسيحية. الأهم من ذلك، بدءاً من منتصف التسعينيات، حينما تلقى جيش الرب للمقاومة دعماً عسكرياً كبيراً من الحكومة السودانية. وقد أرسى ذلك علاقة وكالة واضحة وموثقة حيث استخدمت الخرطوم جيش الرب للمقاومة لزعزعة استقرار شمال أوغندا. وتبرز عمق هذا التشابك أيضاً من خلال الهجوم العسكري الأوغندي، “عملية القبضة الحديدية”، الذي أُطلق في عام 2002 ضد قواعد جيش الرب للمقاومة في جنوب السودان ، مما يدل على الوجود العملياتي لجيش الرب للمقاومة واعتماده على الأراضي والدعم السوداني.
على الرغم من أن قوة جيش الرب للمقاومة قد تضاءلت بشكل كبير على مر السنين ، إلا أن جوزيف كوني لا يزال يعتقد أنه مختبئ، وربما في بورتسوان. علاوة على ذلك، تشكل عودة شخصية بارزة سابقة في جيش الرب للمقاومة، “علي” ، إلى أوغندا من “بلدة حدودية سودانية” في منتصف عام 2023 ، مما يشير إلى استمرار، وإن كان منخفض المستوى، لوجود وتحرك بقايا جيش الرب للمقاومة أو الأفراد المرتبطين به بالقرب من المناطق الحدودية بين السودان وأوغندا وجنوب السودان. ومن المعروف أن الإستخبارات العسكرية السودانية قد انخرطت في أنشطة مزعزعة للاستقرار، بما في ذلك شحن الأسلحة إلى جنوب السودان, و تسليح عناصر من الجيش الأبيض.
التغلغل الاقتصادي: شركات وهمية تمول الفوضى
أقامت أجهزة الاستخبارات العسكرية سلسلة من الشركات الوهمية في شرق وغرب أفريقيا، تحت واجهات استثمارية، لكن في حقيقتها كانت بمثابة “مصارف سرية” لتمويل العمليات الأمنية في الجنوب والدول المجاورة.
ترتبط هذه الشبكات بعناصر موالية لعلي كرتي وصلاح قوش، وتمول عبرها أنشطة غير شرعية. وتشير تقارير دولية موثوقة إلى أن أكثر من 100 مليار دولار من عائدات النفط السوداني اختفت، ويُرجح أن جزءاً كبيراً منها استُخدم في هذه الشبكات السرية.
حلقات جديدة من الحرب بالوكالة؟
مؤخراً، وردت تقاريرموثقة تفيد بتحرك اللواء صبّير، مدير الاستخبارات العسكرية في النيل الأزرق، و قيامة بتزويد مجموعات من “الجيش الأبيض” بأسلحة، بقيادة مسؤول أمني جنوبي منشق، وفّر له الحماية إستخبارات بورتسودان الدعم عبر سفارتها والملحق العسكري مكنته من الهروب من جوبا و التوجه إلى المناطق الحدودية بين جنوب السودان و النيل الأزرق لإدارة عملية إشعال الحرب في الجنوب.
كل ذلك يعيد طرح السؤال القديم الجديد:
هل انتهى “جيش الرب” فعلاً؟ أم أن ما نراه اليوم من هجمات دموية في شمال يوغندا بين “النوير” واللاجئين السودانيين ما هو إلا إعادة إحياء لخلايا نائمة ضمن خطة قديمة متجددة لإعادة إشعال المنطقة؟
في أبريل 2024 أفادت تقارير استخباراتية بأن مجموعة من المرتزقة الروس من مجموعة فاغنر كانت على وشك إلقاء القبض على القس جوزيف كوني، في عملية بالقرب من كافيا قنجي، قبل أن يتمكن من الفرار مع عدد قليل من مرافقيه.
رسميا لا أحد يعرف أين هو جوزيف كوني المطلوب لدى محكمة الجنايات الدولية الان.
لكن هناك تقارير ذات موثوقيه تشير الى وجوده في مكان ما داخل الأرض السودانية تحت حماية الاستخبارات العسكرية، التي تحمي مطلوبين آخرين لمحكمة الجنايات الدولية على خلفية جرائم الحروب المستمرة في السودان.
إن وقوف الدولة اليوغندية مع خيار السلام في السودان و مع خيار بناء السودان الجديد، يزيد من احتمالية تورط الإستخيارات العسكرية المباشر والنشط مع خلايا من جيش الرب للمقاومة , و الجيش الأبيض، و يرفع أحتمالية أن هذا الحادث ليس عرضا من متوسطة إلى عالية بمعايير الأمن.
فالسابقة التاريخية للحرب بالوكالة قوية وموثقة جيداً. ويوفر الصراع الداخلي المكثف الحالي في السودان دافعاً متجدداً وملحاً لبورتسودان للإنخراط في أنشطة مزعزعة للاستقرار في شمال أوغندا. وبينما ضعف جيش الرب للمقاومة نفسه بشكل كبير، يمكن للمخابرات السودانية إستغلال بقاياه، أو بشكل أوسع، الاستفادة من نقاط الضعف القائمة في شمال أوغندا، بما في ذلك مخيمات اللاجئين
الخلاصة:
التقييم العام: يمثل هجوم كرياندنقو تفاعلاً معقداً بين ندرة الموارد المحلية، والعداوات العرقية المتجذرة بعمق، وتأثيرات الصراعات الإقليمية، والتي قد تتضخم بفعل الأنشطة الاستخباراتية الانتهازية.
ما كان يُعتقد أنه صراع داخلي محض، لم يكن إلا جزءاً من مشروع إقليمي أكبر، أدير بوسائل استخباراتية دقيقة، تستثمر في التناقضات، وتعيد إنتاج الفوضى بمسميات جديدة.
اليوم، تقع على عاتق الأجهزة الأمنية في جنوب السودان، ويوغندا، وتشاد، و ليبيا، و كينيا، وسلطات “السودان الجديد”، مسؤولية تفكيك هذه الشبكات، وتجفيف منابع تمويلها قبل أن يتحول “الشرر الصغير” إلى حريق إقليمي أوسع، يفاقم من أزمة المنطقة المأزومة اصلا.
لندن
13/07/2025
التعليقات مغلقة.